بقلم العلامة الشيخ عبد المجيد الزنداني
رئيس جامعة الإيمان في صنعاء رئيس مجلس شورى حزب
الإصلاح الإسلامي وعضو سابق في مجلس الرئاسة اليمنية
مؤسس الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة في مكة
لقد جئنا من عالم الغيب، وسننتقل إلى عالم الغيب مرة أخرى. ولكل عالم سننه الخاصة به والانتقال من عالم إلى عالم، يصحبه تحول في السنن التي تحكمنا أثناء ذلك الانتقال. ألا ترى أن السنن التي تحكمنا ونحن أجنة في بطون أمهاتنا تختلف عن السنن التي تنتظرنا خارج الرحم، بل إن السنن التي تحكم سكان الأرض على سطحها تختلف عن السنن التي تحكم رواد الفضاء خارج الأرض، فكيف بالسنن التي تنتظرنا بعد موتنا وخروجنا من الحياة الدنيا ؟! ولا يستطيع أحد أن يخبرنا خبراً يقينياً قاطعاً عن مستقبلنا الذي إليه نسير إلا الذي ينقلنا إليه، وهو الله سبحانه. من أجل ذلك أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام لإخبارنا عن مستقبلنا وطبيعة الحياة والسنن التي ستواجهنا في تلك المرحلة من الحياة بعد الموت. قال تعالـى﴿ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ(15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(16)﴾(غافر:15-16).
أدلة الإيمان باليوم الآخـــر
1- الإخبار عنه في القرآن والسنة: إن الذي خلق اليوم الآخر وخلق الجنة والنار قد أخبرنا عما أعد لعباده المؤمنين، وتوعد به الكافرين. فقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(6)وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ(7)﴾ (الحج:6-7).
وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ(5)وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ(6)﴾ (الذاريات:5-6). وقال تعالى: ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(1)وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(2)أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ(3)بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ(4)﴾(القيامة:1-4).وقال تعالى﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ (التغابن:7).
وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا عن اليوم الآخر وهو الذي زار الجنة ورأى النار في ليلة الإسراء والمعراج فهو شاهد العيان الصادق الذي لا ينطق عن الهوى فقال صلى الله عليه وسلم: عندما سأله جبريل عن الإيمان: ( أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ) (1).
كما ذكرت السنة النبوية كثيراً من تفاصيل أحداث اليوم الآخر كالبعث والحشر والموقف والحساب والصراط والميزان والجنة والنار. ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً) (2) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ؟ فَقَالَ: الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ). (3)
ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، في ذكر النفخات التي تسبق قيام الناس من القبور، وفيه (ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ)، قال (لَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). (4)
وإخباره صلى الله عليه وسلم عن الميزان بقوله (مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ).(5)
وقوله صلى الله عليه وسلمفي وصف الصراط (وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، وَدُعَاءُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَبِهِ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ أَمَا رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ (6)،قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهَا لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، مِنْهُمُ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو ). (7)
وقال صلى الله عليه وسلم عن القنطرة (إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ (8) بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا). (9) وقال صلى الله عليه وسلم(إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ عُنْقُودًا، وَلَوْ أَصَبْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَأُرِيتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ..). (10) وقال صلى الله عليه وسلم (قَدْ دَنَتْ مِنِّي الْجَنَّةُ، حَتَّى لَوِ اجْتَرَأْتُ عَلَيْهَا لَجِئْتُكُمْ بِقِطَافٍ مِنْ قِطَافِهَا، وَدَنَتْ مِنِّي النَّارُ حَتَّى قُلْتُ:أَيْ رَبِّ وَأَنَا مَعَهُمْ ؟ فَإِذَا امْرَأَةٌ – حسبت أنه قال:تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ. قُلْتُ:مَا شَأْنُ هَذِهِ؟قَالُوا حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا،لاَ هي أَطْعَمَتْهَا وَلاَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ – قال نافع:حسبت أنه قال:مِنْ خشيش أو خَشَاشِ الْأَرْضِ) (11)
2- استحالة العبث، ولن نترك سدى إن الحياة الدنيا بدون الحياة الأخرى تكون عبثاً، وتعالى الله عن العبث، فالحكمة ظاهرة في تضاعيف هذا الكون وبنائه وفي جميع خلايا الإنسان وأجهزته. وكل جزء في كيان الإنسان قد خلق لحكمة، فكيف تكون الحياة بأكملها عبثاً لا حكمة من ورائها؟ فلابد أن هناك حكمة، وإذا كانت لا تظهر في الدنيا فلابد من يوم آخر تظهر فيه، قال تعالى﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى(37)ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى(38)فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(39)أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى(40)﴾(القيامة:36-40).
3- العدل الإلهـي إذا رأيت جباراً يعتدي على طفل صغير فإن مشاعرك ستتحرك مستنكرةً لذلك العدوان، ولكل ظلمٍ تراه. ولو أن حماراً يرى نفس المنظر للظالم ما تحركت مشاعر كراهية الظلم لديه، ذلك لأن الذي خلقك قد فطراك على حب العدل (12) ولم يفطر الحمار على ذلك.وكل مخلوق من البشر قد فطر على نفس ما فطرت عليه أنت، ولو جمعنا حب العدل الذي قسم بين الأولين والآخرين وفي نفوس الأنبياء والفضلاء والصالحين لما كان إلا قبساً من عدل الله العظيم لأن حب العدل صفة كمالٍ، والخالق أكمل من مخلوقاته فهو صاحب العدل الكامل سبحانه ومن العدل أن يثاب المحسن ويعاقب المسيئ، فإذا عرفنا أن عدل الإنسان يأبى التسوية بين الظالم والمظلوم والمطيع والعاصي، وعلمنا أن الله هو صاحب العدل المطلق والكمال الأعلى ورأينا موازين العدل لا تتحقق كاملة في الحياة الدنيا جزمت العقول بأن الله سيقيم العدل الكامل في حياة أخرى. كما قال سبحانه ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ (الجاثية:21) وقال تعالى﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)﴾(القلم:35-36) قال تعالى﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ﴾ (الأنبياء:47).
4- دليل الحق: لو أنك زرت بلداً متحضراً في حياته المادية، ورأيت جميع الشوارع في جميع المدن معبدةً منارةً بأعمدة الإضاءة فإنك ستستنتج أن قانون هذه الدولة ونظامها يقضي بتعبيد الشوارع وإنارتها. فإذا دخلت شارعاً في مدينة من هذه المدن، ورأيت الحفريات وأعمدة الإضاءة ملقاةً على الأرض ومتناثرة فيه ستجزم بأن هذا الشارع لا بد أن يعبد، ولا بد أن يضاء بالنور وأن تقام فيه أعمدة الإضاءة كبقية الشوارع في تلك البلاد، وجميع تلك المدن وفقاً لقانون تلك البلدة ونظامها ؛ لأن الحكومة التي من شأنها تعبيد الطرق وإضاءتها لا تترك هذا الشارع شاذاً عن نظامها. إذا عرفت ذلك فتأمل في هذا الكون الذي أقام الله بناءه بالحق. لقد خلق الله السموات والأرض بالحق، فانظر إلى خلايا جسمك وأنسجته وأعضاءه وأجهزتة، سترى أن كلاً منها في موضعه الصحيح وشكله الصحيح ويؤدي وظيفته الصحيحة وأنها جميعاً قد خلقت بالحق شكلاً ووظيفة وموضعاً. وإذا تأملت في أجزاء سائر الحيوانات والنباتات وجدت ما تجده في نفسك من وضع كل شئ في موضعه المناسب وبحجمه وشكله الصحيح المناسب لوظائفه. وإذا درست الأرض وتركيبها ستجد أن كل أجزائها من هواء وماءٍ وأرض وصخور وموقع في المجموعة الشمسية قد وضعت في أماكنها الصحيحة المناسبة لحياة ما عليها من كائنات.
وإذا تأملت في الشمس والقمر والنجوم والكواكب وجدتها بأحجام ومدارات وتركيب وسرعات محكمة موزونة متقنةٍ متناسبة مع كل جرم من تلك الأجرام ومتناسقة في بناء كامل قامت عليه السماء، فيدلك ذلك على أن الحق الذي هو وضع الأمور في نصابها هو القانون الإلهي الذي قام عليه بناء الأرض والسماء. والاستثناء هو ما تراه في حياة الناس، فنجد الظالم مكرماً والمظلوم مهاناً في أحيان كثيرة. وقد نجد النبي المرسل مطارداً يؤذيه السفهاء، وتجد العبد المتأله يعبد من دون الله، فلا ترى سنة إقامة الحق الذي شمل الأرض والسماء كاملة التحقق في حياة البشر. فيدلنا ذلك على أن الذي أقام الحق في أجزاء الكون لابد أن يقيمه في حياة الناس ولابد أن تخضع حياة الناس للقانون الذي خضع له الكون. وما دام هذا القانون غير متحقق في الدنيا، فلابد من يوم آخر يقام فيه الحق، كما قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(22)﴾ (الجاثية:21-22).
5- الأطماع الواسعة وحب الخلود: لو نظرنا إلى خلق الأطراف (اليدين والرجلين) عند الجنين في رحم أمه ما فهمنا الحكمة من خلقها، إذ أنه لا يمكنه استخدامها في ذلك المكان الضيق حيث لا تقوم الحاجة إليها. ولن تظهر الحكمة منها إلا عند خروجه من ذلك المكان إلى مكان أرحب حيث يحتاج لتلك الأطراف في السعي في الأرض. إذاً فخلق تلك الأطراف وإحكامها كان من أجل مرحلة تالية من الحياة. والذي يقصر نظره على طور الرحم سينكر الحكمة من خلق تلك الأطراف عندما يراها لا تؤدي وظيفة. لكن الإحكام في خلق تلك الأطراف مشاهد، وإنكاره باطل، وعدم ظهور الحكمة في الطور الأول لا ينقض الإحكام ولكن يدل على ضرورة وجود طور آخر تظهر فيه الحكمة من ذلك الخلق الزائد عن سعة الرحم وحاجة الجنين في تلك المرحلة. وكذلك الأطماع الواسعة للإنسان في هذه الدنيا وحبه للخلود لا تتسع الحياة الدنيا على الأرض لتلبيتها، فكلما تحقق للإنسان مكسب من مكاسب الحياة سعى إلى مكسب آخر، وان أعطي وادياً من مال طلب آخر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ) (13).
ولو امتلك الإنسان نصف الأرض لطلب النصف الآخر، ولو أعطي الأرض كلها لسلك سبيلاً إلى القمر. ولو عرض عليه أن يعمر ألف عام أو مليون عام أو أكثر من ذلك لطلب المزيد، ولن يرضى إلا بالخلود. وما زلت قدم أبينا آدم عليه السلام من قبل إلا طمعاً بالخلود والملك الذي لا يبلى، كما قال تعالى: ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ﴾(طه:120). فهذان دليلان من فطرة الإنسان على أن حاجة فطرته أكبر من هذه الأرض وعمرها. ولما كان الخالق حكيماً لا يعبث، والأرض لا تكفي لتلبية هذه الفطرة، فالعقل يقضي بأن هناك طوراً آخر خلقت من أجله هذه الفطرة الزائدة عن حجم الأرض وعمرها. قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ(34)لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ(35)﴾ (ق:34-35).
6- دليل البدء والإعادة: إن نسمة الهواء (الأوكسجين) التي تتنفسها تتحول في جسمك إلى ثاني أكسيد الكربون الذي تأخذه الأشجار فيعود مرة أخرى نسمة جديدة من الأوكسجين. وإن ماء النهر يجري إلى البحر ثم يتبخر فيكون سحاباً ثم يصب مطراً فيعود أنهاراً تصب في البحار. وإن صخور الأرض التي نعيش عليها تدمس في باطن الأرض فتصهر في باطنها الناري لتخرج حممًا بركانية فتعود صخوراً مرة ثانية على سطح الأرض. وإن الصباح يأتي ثم يعقبه الليل ثم يعود الصباح مرة أخرى. والقمر يبدأ هلالاً ثم يكتمل بدراً ثم يعود هلالاً كالعرجون القديم.وإن النجم يبدأ من سحابة من دخان ثم ينفجر فيعود دخاناً. إن الكون كله بدأ بانفجار عظيم ثم أخذ في التوسع وسيعود كما بدأ أول مرة. فسنة الله في الكون بدء وإعادة، وكما بدأ الله خلق الإنسان فسوف يعيده مرة أخرى، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (الروم:11).
وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ (الروم:27). وقال سبحانه: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(19)قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(20)﴾(العنكبوت:19-20) فالذي شأنه أن يعيد الخلق كما بدأه قادر على يعيد خلق الإنسان كما بدأه. وهو سبحانه يرينا كيف يحي المواد الميتة. قال تعالى ﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾(فاطر:9)وقال تعالى﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(فصلت:39)وقال سبحانه﴿ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا(66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا(67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا(68)﴾(مريم:66-68) ﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴾ (يس:39).
7- دليل الثواب والعقاب: ما جعل الله الدنيا دار جزاء ولكن كادت الدنيا أن تكون دار جزاء، فكم نرى من المجرمين قد أحيط بهم بعد طول أجرام؟! وكم من المظلومين يقتص الله لهم ممن ظلمهم ؟! وكم أخذ الله الأمم الكافرة بعد قوة وتقلب في البلاد ؟! وكم أجاب الله دعاء المؤمنين بالنصر على أعدائهم.فعندما استقام المسلمون على دينهم كان نصر الله يتنزل عليهم، وعندما انحرفوا سلط الله عليهم أعداءهم. وعندما جاءت الدول الاستعمارية محاربة للإسلام ظالمة للمسلمين ؛ ثارت عليها الشعوب المظلومة وطردتها من بلادها. وعندما نشر الاتحاد السوفييتي الكفر والظلم والفساد حطمه الله وهو في أعز قوته. وهكذا من يتأمل في حياة الأفراد والأسر والمجتمعات يجد أن الدنيا تكاد تكون دار جزاء يعاقب فيها المسيء ويكافأُ فيها المحسن.
وإذا تأملت هذا جلياً فإنك ستصل إلى نتيجة تدلك على أن الذي عجل للكافرين والظالمين بعض ما يستحقون من العذاب لابد أن يوفيهم في الدار الآخرة ما يستحقون من العقاب، كما قال سبحانه عن قوم عاد: ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ (فصلت:16). وقال تعالى عن المنافقين: ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ (التوبة:101). وكما يعجل الله بعض العقاب للكافرين فإنه يعجل للمؤمنين بعض حسناتهم في الدنيا ويوفيهم أجورهم يوم القيامة. قال تعالى عن المؤمنين: ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾ (النحل:30).
وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَءَاتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ (النحل:122). وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ (النحل:41) فيكون بعض الثواب والعقاب من الله في الدنيا دليلا على الثواب والعقاب الكاملين في الدار الآخرة.
8- ظهور علامات الساعة: لقد أخبرنا رسول الله صلى الله وسلم بأحداثٍ ستقع في الدنيا، تكون علامات على قرب الساعة فشاهدنا الكثير منها (14)، مثل ما جاء في حديث جبريل عندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمارات الساعة فقال: (...أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ...) (15) وقد وقع ذلك بشيوع التسري (اتخاذ الإماء) فتلد لسيدها بنتاً تضم إلى أسرته وتبقى هي في الإماء. وبعد ظهور النفط والمعادن رأينا من كانوا حفاة عراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما شاهدنا من علامات الساعة يؤكد صدق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلمعن الساعة والآخرة. وكما رأينا هذه العلامات في الدنيا حقاً فسنرى الجنة والنار حقاً، وسيجد كل فريق ما وُعد به. يقول تعالى: ﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ (الأعراف:44). أهمية الإيمان باليوم الآخر أولاً: الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان الستة التي ينبني عليها إيمان المؤمن ولا يصح إيمانه إلا به. ولأهمية هذا الركن قرنه الله بالإيمان به سبحانه. قال تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ… ﴾ (البقرة:177). وقال تعالى: ﴿ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر ﴾(الطلاق:2).
ثانياً: إن من لا يؤمن بالله واليوم الآخر يعيش في هذه الدنيا كالحيوان، لايدري ما الحكمة التي من أجلها خلق، فالحياة الدنيا تفقد معناها بدون الإيمان باليوم الآخر، وتصبح حلقة مبتوتة عن الماضي والمستقبل. ولقد اصطدم أحد الفلاسفة الوجوديين (16) المعاصرين بهذه الحقيقة، فقرر أن الحياة عبث وأن انتظار المزيد منها حماقة، لأن استمرار الحياة ليس إلا مجرد فرصة لتبادل الإساءات مع الآخرين، فمن أراد أن يجنب نفسه أو أحبابه شر نفسه وشر غيره فليبادر بالتخلص من حياته وحياة أحبابه.وتطبيقاً لذلك، فما إن رأى زوجته في سعادة، حتى تقدم إليها ليمنع عنها أي شقاءٍ قادم فذبحها، ثم سلم نفسه للشرطة. ورفعت الشرطة أمره إلى أن وصل إلى رئيس الجمهورية- يوم ذاك - الذي قال: عار على فرنسا أن تعتقل عقلها!! ولكن أودعوه مستشفى المجانين!! ليجعل له بذلك مخرجاً من أن تناله طائلة القضاء. (17)
ثالثاً: من لا يؤمن بالله واليوم الآخر لا يركز همه إلا على هذه الدنيا وما يحقق فيها من مصالح ومنافع شخصية، فهو يبذل كل جهوده ليصارع الناس على ما في أيديهم ليفوز من هذه الدنيا بأعلى نصيب قبل أن يأتيه الموت، فيحرمه من لذائذه. فتجده يسعى في تحقيق أهدافه ولا يبالي أن يكون ذلك بغش أو خداع أو سلب أموال وظلم واستباحة دماء، أو هتك أعراض واحتيال ونفاق، لا يخاف عقاب ربه ولا يخاف إلا أن يقع تحت طائلة القانون وعقاب المسؤولين من البشر، فإذا أمن جانبهم، وأحكم الخطة لمغالطتهم، انطلق كالحيوان المفترس، لا يقف عند حد، فالإنسان بدون إيمان باليوم الآخر وحش مفترس لان همه الدنيا وليس له منها إلا اللذائذ الشخصية والمصالح الدنيوية. ويأتي ذكر الموت ليشعل نار الشهوات والأطماع في نفسه وقلبه فيبالغ في تعجيل شهواته ومطامعه بأي وسيلة إجرامية قبل أن يدركه الموت.
أما المؤمن باليوم الآخر، فيعرف أن حياته الدنيا مقدمة لحياته في الآخرة التي ينتقل إليها بالموت، وأن عليه أن يعمل الصالحات، ويجتنب السيئات حتى يفوز برضا ربه، ويدخل الجنة ذات النعيم المقيم الخالد، وحتى ينجو من النار وهو يؤمن بأن الله لن يضيع عمله الصالح بل سيجزيه به الجنة. قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا(30)أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا(31)﴾ (الكهف:30-31).
وذكر المؤمن للموت يزيده صفاءً ونقاءً ويجعله يقدم لآخرته، ويجعله يعبد ربه ويتخلق بأخلاق الإسلام. ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فتراه صادق الحديث وفياً بالعهد، حافظاً للأمانة، يسعى إلى الخير، ويقاوم الشر، لا يغش ولا يخدع، ولا يسرق ولا يقتل ولا يزني، ولا يغتاب. إنه الإنسان السوي المستقيم. أما ما نشاهده اليوم من رذائل قد تفشت بين المسلمين فسبب ذلك ضعف في إيمانهم باليوم الآخر، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.